المستقبلمقالات

سافرة "مونو"

لا تتكلم كثيراً. تخاف من طواحين تنتظر هروبها الموقت من أزقة الضيعة. شحيحة الكلام. لم يؤت نتيجة إقناعها بأن اسمها سيظلّ طي الكتمان.
خافت، فربطت شعرها بحركة اَلية. كأنّها تعيد قصتها إلى مجاهلها الأولى. ربطته حتى اختفى ظلّه وغاص بعيداً عن كتفيها. حبل بدايتها أكثر طولاً من احتمالات النهاية. النهايات لا حبل يجمعها. تشعّب تفاصيلها يفرّقها. يجعلها أشبه بالحصى نسبة إلى صخرة البداية. وبدايتها سوداء، كلون شعرها. هي تحب لونه. تتركه منسدلاً ليستريح على كتفيها المتعبين. تحارب به قصصاً وأساطير وخوفاً مدفوناً في نوافذ طفولتها. تعمل نادلة في أحد ملاهي "مونو" ذلك الشارع الذي يلعب دور النبض في قلب المدينة. وتلعب فيه دورها بإتقان.
"أول مرة نزلت على بيروت، حسّيت إني ما كنت عايشة قبل". أزقّة "مونو" شبيهة بطرقات ضيعتها. ضيّقة. مكدّسة. كثيرة. لكن خالية من الألفة.
هنا، لا أحد يعرفها. ليست ابنة فلان ولا قريبة علتان. هي هي وفقط. شكلها دليل إليها وترسمه كما تشاء. تعمل ليلاً في ذلك الملهى الذي جرَتها إليه بيروت، من شعرها، الذي تتركه منسدلاً على كتفيها، لا يضايقها انفلاته. لا تخبئه. يبهجها، يعطيها عرياً يتكدس فوق رأسها.
هنا لا تخاف من أحد. ربما تنزلق رِجلا شاب من قريتها إلى زواريب "مونو"، لكنّها ستكون شكلاً اَخر. لن يعرفها أحد. ستكون مختلفة. تقدم المشروبات للزبائن.
يزعجها غيابه في شوق العطلة الطويلة. يخنقها أن تُلبس رأسها، أن تقتل ذلك العري الأسود، الجميل، الذي يمدّها باحتمالات البقاء، بقماش لا دور له في عرفها.
تدخل الليل واثقة من شكلها. تقسم حياتها بين قرية لفظت فيها أنفاسها الأولى، وشارع يعيد إليها ما تبقى من أنفاسها. لكنها تفقد إحساسها بالحياة شيئاً فشيئاً. هي نفسها. لكن الأمكنة تتغير. ذلك التنناقض الذي تعيشه لا تريد أن تتحمل مسؤوليته.
"ما عندي انفصام بالشخصية، عندي انفصام بالمجتمع".
رمتها بيروت في أحضان العولمة. حوّلتها وجبلتها بطين الليل. سلبت من رأسها قطعة قماش وأبدلتها بوظيفة. تقول إنها أعادت إليها الأحلام. والأحلام باتت ثمينة.
تحلم بتوحيد نفسها في شخص واحد. بتوحيد تلك التفاصيل الغارقة في التناقض إلى حدّ الانفجار. لم تعد تهتم. ملّت. لم تعد تهرب من لصوصية العيون. تسرّب المال إلى يومياتها. تحب قريتها. تحب بيروت. تحب شعرها، وتحب حياتها. لكن تحلم بتغيير ذلك كلَه.
"بلشت إتعوّد". لا حيلة لها سوى أن تتأقلم. لم تعد ترغب بتغيير العالم. غيّرت شكلها والعالم بقي كما هو. همّها أن تنهي أيامها من دون مشكلات.
حفرت اسمها على جدران المدينة المتاَكلة بعد أن محته من طوب القرية.
تفلته ذات يوم الى الأبد، أو ستكدّسه الى الأبد، إذ لا يبدو أنها ستعيش هذه التجربة طويلاً، لكنها تعيشها، وتعيشها بشكل مأسوي.
قد تكون غريبة في بيروت، لكن من المؤكد أنها غريبة أينما كانت، لأنها لم تجد حضناً لحقيقتها سوى الكذب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق