البلد

زياد الرحباني الذي لم يعد لديه ما يعطيه!

كان كل شيء مرتباً ليوحي بالأبيض والأسود في قصر الأونيسكو يوم الأحد الماضي. والمناسبة احتفال بالذكرى الثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني. لذلك، فإنّ معظم الذين حضروا الحفل إنما جاؤوا لمشاهدة زياد الرحباني بالأبيض والأسود، مثل فيلم قديم، أو مثل مسرحياته القديمة. وبدا أنّ زياد، الذي قلما يقترب من جمهوره، كان يريد أن يظهر بتلك الصورة القديمة. وحدهم المستمعون كانوا ملونين، مثل فيلم جديد، أو أغنية لنانسي عجرم. هم المتفرجون على الأرجح، لأن معظمهم جاء ليشاهد زياد لا ليسمعه. لكنهم، رغم صغر أعمارهم، كانوا يلبسون الكوفيات نفسها، وقبعات غيفارا نفسها، التي كان يلبسها من هم أكبر سنا، أصدقاء خالد وزياد وزملاء دربهما الذين حضروا أيضا.

والشبان المذكورون تعرفوا على زياد فقط من أشرطة الكاسيت التي سجلت عليها مسرحياته وأغنياته. وأغلب الظن أنهم لم يشاهدوا ولو مسرحية واحدة من مسرحياته. وهم جاؤوا يومذاك ليسقطوا صورته على الصوت المركون في آذانهم، ليؤلفوا مشهدا زياديا خاصا بهم. مشهد أسطره (من أسطورة) أولئك الشبان في غياب الصورة. وهم، حين جاؤوا، حملوا في دواخلهم ولاء أعمى لذلك المشهد، حتى قبل أن يلتصق ويتألف. لذلك، كانوا مستعدين للإستماع لأي شيء يقوله، ولأن تضحكهم أي نكتة يقولها، ولو كانت قديمة، كما الكثير من النكات والتعليقات التي ساقها، فبدا الغبار سميكا على حروفها، وكأنها خارجة من الحرب منذ دقائق.

كان يكفي أن يقول "سعيدة" ليغرق المتفرجون في الضحك دقائق. لكن ما هو المضحك في "سعيدة" يقولها زياد الرحباني لجمهور غير هذا الجمهور؟ لا شيء. إلا أنّ هذا الجمهور تحديداً كان مستسلماً لسطوة زياد استسلاما أعمى، غير قادر على التمييز بين "المضحك" والثقيل الوطأة، وبين النكتة الجديدة المعاصرة، المتصالحة مع الحاضر اللبناني والعالمي، وبين الـ"قديمة"، التي لا شك أنّ المتفرجين كانوا سيوجهونها لأي آخر ألقى النكتة نفسها. مثل النكتة التي راح يؤلفها عن العلاقة القديمة بين "الأب" السوفياتي و"الابن" الأوكراني، ليشير من بعدها إلى أنّ "الأوكران ما عادوا يأمنوا للسوفيات، ليك ليك ملا آخرة". فبأي مقياس تدفع هذه النكتة للضحك الكثير والمتواصل الذي غرق فيه نحو ألفين من المتفرجين.

من خلال مقاطع قرأها كل من ليال ضو ورضوان حمزة، وداليا القاضي، من نصوص كتبها زياد، أو ألقاها عبر أثير "صوت الشعب"، نستطيع أن نرى أن "أسطورة الحفل" عن قصد أو عن غير قصد، إسترسل في لعبة تأليهه، هو نفسه. أي لعبة اصطياد زياد من الصورة المنمطة التي بدا منتشيا بالظهور من خلالها. فلماذا يقرأ أحد ما مقاطع من نصوصه في حضوره؟ ما المبرر ما دام هو قادراً على قراءتها؟ ألا يسمح له موقعه بقراءتها؟ أم أنه أصبح في موقع من التكريس بحيث بات صعباً عليه أن يعيد قراءة ما عفاه الزمن؟ وإذا كان الحال كذلك فلماذا لا يقول شيئاً جديداً يسهل عليه قوله؟ هل لأن لا شيء جديد يضيفه؟ هل أصبح زياد عجوزاً مثل الحزب الذي يحتفل بثمانينه؟

قد تكون الإجابة عن كل ما سبق: نعم. وقد تكون: زياد يريد أن يبعث برسالة مفادها أنّ هذا الحزب قديم جداً، وأن ما يربطه به هو "هذا القديم"، فقط. وذلك من خلال الأبيض والأسود اللذين صبغ بهما الأمسية، في أغنيات "أنا مش كافر" و"صيري إنت الجماهير". أما الأغنية الوحيدة التي كانت جديدة: "أكثر من أي زمان هيدا زمانك"، التي غناها خالد الهبر لـ"الأجيال الجديدة"، فقد بدت قديمة أيضا، في مخاطبتها لـ"حزب الناس الموعودين" ومن خلال تقديمها مصطلحات مثل "كل ال ما عندن طوايف واللي ع المستقبل خايف". قديمة قدم "الحزب".

بدت تلك الجلسة كأنها مصنوعة لتكون بين إثنين فقط، خالد وزياد، في منزل أحدهما، يروحان يتذكران فيها الأيام الغابرة. لكن السهرة، إذ أحاط بها ألفان من عشاق زياد، بدت مثل من يتشبث بشيء يبتعد. مثل حالة الحزب الأحمر، الذي لم يعد لديه عمل سوى إحياء الذكريات، من "جمول" إلى "عيد ميلاده" إلى حصرايل إلى غيرها. ووقع هذه المرة زياد القليل الظهور، في فخ الحزب القديم، فخ الحنين. وكان المتفرجون ينتظرونه ليغرقوه أكثر، في كل فاصل بين أغنيتين، إذ يهتفون: شيوعي.. شيوعي.. شيوعي، إلى أن تبدأ الأغنية التالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق