أساس ميديامقالات

عودة مصر (4): "انهيار لبنان ليس حلّاً… وسنحاربه"

لا ترغب مصر في خوض الحرب مع أحد حاليّاً. لكنّ رئيسها عبد الفتّاح السيسي كان واضحاً في خطابه الأخير: "مياه مصر خطّ أحمر… وإلّا فلا استقرار في المنطقة". هذا تهديد عالي النبرة وغير مسبوق. الرئيس الآتي من خلفية عسكرية، يعرف أنّ ما يقوله يجب أن يستند إلى قوّة عسكرية كبيرة. وهو يدرك أنّ ترتيب جيشه يأتي في المرتبة الـ13 بين أقوى جيوش العالم. وبالتالي هو لا يمزح. فعلاً "لا يمزح".

مصر باتت تهدّد إذاً. أدوارها تتوزّع من ليبيا إلى سوريا والسودان والصومال، ولا تنتهي في لبنان، حيث "تدارى" الموقف المصري خلف المبادرة الفرنسية منذ 8 أشهر تقريباً. لكنّ حركة السفير المصري الجديد ياسر علوي لم تعد خفيّة على أحد.

ماذا عن لبنان؟ كيف نلخّص الدور المصري؟ وهل من دور مصري أوّلاً؟

هناك رأي "دولي" و"عربي" بأنّ "انهيار لبنان يضعف حزب الله". وهو رأي قد يتّفق معه البعض ويختلف معه البعض الآخر. لكنّ الثابت حتّى الآن أنّ حزب الله، وبيئته الاجتماعية، هم الأكثر صموداً، والأكثر تكيّفاً، مع هذا الانهيار. ولا ينفي هذا "التعب" الذي أصاب الأمين العام لحزب الله، والخلافات التي بدأت تعصف بحلفه مع الرئيس نبيه برّي، لأنّ "جيش" برّي يتألّف من الموظفين الحكوميّين، مدنيّين وعسكريّين، ومن طبقة وسطى مصالحها داخل لبنان، ومن أثرياء ملايينهم الدولارية "تبخّرت" أو تكاد، في المصارف اللبنانية شبه المفلسة.

لكنّ لمصر رأياً آخر. النظرية التي تحدّثنا عنها في الأجزاء السابقة من هذه السلسلة، كشفت بوضوح رؤية مصر لـ"العروبة الحديثة": دول وطنية مركزية قويّة، يمكن أن تتحالف من أجل أن يستعيد العرب زمام التاريخ، وزمام المبادرة، وأن يكونوا رقماً صعباً في العالم الجديد.

في هذا المعنى، يبدو أنّ لبنان، وفقاً لهذه الرؤية، مهدّد بـ"الخروج من التاريخ". فبيروت، بعدما فقدت مرفأها، وهو بوّابتها إلى العالم، وبعدما وصل "طريق الحرير" الصيني إلى مرفأ حيفا، باتفاق سيدوم 25 عاماً، من دون المرور في بلاد الأرز، تبدو كأنّها عاصمة تسبح عكس تيّار الزمن.

وللمرّة الأولى في تاريخ لبنان، يشعر المجتمع العربي والدولي براحة وهو يدير ظهره للبنان، بلا أسفٍ ولا ندم. والأسباب كثيرة وواضحة، أبرزها كون لبنان ما عاد ساحة الصراع الوحيدة في المنطقة.

فلبنان كان يتلقّى تمويلاً ليكون طاولة القمار التي يلعب عليها كلّ من يرغب في المقامرة. خطّ تماس إقليمي ودولي. لكن بعدما اشتعلت حرائق المنطقة، بات كلّ بلد ساحة مستقلّة. هناك الحريق السوري، الذي بات حزب الله اللبناني جزءاً منه، وهناك الحريق العراقي، وهناك الحريق الليبي، وهناك الحريق اليمني.

ماذا يعني هذا؟

يعني أنّ العالم انتقل من رغبته في تقديم دعم يمكن أن يُخرج لبنان من أزمته الاقتصادية إلى البحبوحة والازدهار والتطوّر، إلى دعم سقفه توفير المأكل والمشرب للفقراء المعدمين كي لا يموتوا من الجوع. وهذا تغيير كبير يقول في ما يقول إنّ الأزمة طويلة، وإنّ العالم قرّر المشاركة في الحدّ من تداعياتها الإنسانية فقط، وليس وقفها أو منع الانهيار.

السبب الثاني لـ"هجران" المجتمع الدولي لبنانَ، هو أنّ مصارف هذا البلد كانت الرئة المالية والمصرفية للمنطقة. وبعد إفلاس المصارف، انخفضت الودائع، وتوقّفت حركة تحويل المليارات إليها، وبالتالي بات الموقف من المصارف يشبه موقف العالم من البلاد: فهي مهجورة، ولا أحد يهتمّ بصيانة البلاد التي تضمّها.

هنا يأتي دور مصر، التي تحارب فكرة "الانهيار". الانهيار برأي مصر سيسمح بنشوء حالات متطرّفة، وبتقوية المتطرّفين في كلّ الطوائف. الميليشيات القوية يعني سقوط الدولة الوطنية، وتكالب المشاريع الخارجية، غير العربية، عليها. من الأتراك المسرعين إلى العمل في الساحة السنّيّة، إلى الإيرانيين المسيطرين على الساحة الشيعية وعلى كلّ القرار السياسي اللبناني، وصولاً إلى إسرائيل التي تهدّد دوريّاً بقصف البنية التحتية وإرجاع لبنان مئات السنين إلى الوراء.

هذا ربما سيسمح بتسريع عملية تحويل اللبنانيين إلى مسلّحين، تمهيداً للدخول في حرب أهلية، لن تكون دول المنطقة في منأى عن تداعياتها، ومنها بالطبع مصر. وهنا يبرز دور مصر، وموقفها الرافض للانهيار. ولهذا تحاول بكل ما أوتيت من قوّة أن تقف بوجه هذا المناخ العربي والدولي الداعي إلى ترك لبنان ينهار فوق رؤوس أهله لـ"تربية" اللبنانيين.

السفير المصري قال من بكركي: "الفراغ جريمة وليس ورقة تفاوضية". ومصر ترى أن الحلّ لا يكون بتجويع اللبنانيين. رحيل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب سمح لهذا الرأي المصري بأن يصير أكثر علنية. وهو مرشّح ليكون الصوت الأعلى في المرحلة المقبلة.

الحلّ يكون بحماية "الدولة"، أي الجيش والقوى المسلّحة، والقوى السياسية التي تواجه المشاريع الأجنبية، من تركية وإيرانية وإسرائيلية، وبدعم الوزارات، وأوّلا بتشكيل حكومة لا ثلث معطّلاً فيها لأيّ طرف. والحجّة أنّ امتلاك طرف قدرةً تعطيليةً سيجعله في موقف حرج أمام بيئته لحظة صدور قرارات غير شعبية. وعدم امتلاك ثلث معطّل يسمح لكلّ الأطراف بالتبرّؤ من القرارات الصعبة باعتبارها عاجزةً عن الوقوف في وجه الإجماع.

مصر لا تمزح: ممنوع انهيار لبنان.

وهذا ليس تفصيلاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق