المستقبلمقالات

شباب "المودكا" يعتصمون على رصيف "فيرومودا"

جيل بلا مقهى ... وبلا بديل

إعتاد مدمنو المقاهي من بقايا "يسار الحمرا" المتناثر في أزقة بيروت أن يكون لهم في كل "عرس قرص".
ففي 4 تموز الفائت وبمناسبة افتتاح محل الألبسة VEROMODA، في الحمرا، مكان مقهى "المودكا" قررت شلة منهم أن ترفع صوت الماضي من حناجرها، في حركة تدل، إن دلت، على التمسك الأعمى بعلاقة المشبوهة مع الماضي أقرب إلى سفاح القربى. نظموا أمام متجر الألبسة الذي انضم إلى قوافل المتاجر التي غيرت معالم وجه الحمرا، من شارع أحمر بلون دماء الضابط الإسرائيلي المقتول في"الويمبي" على يد المقاوم خالد علوان، إلى شارع أخضر بلون الدولار الذي طرد المقاهي واحدا تلو الاَخر، ليعيد تشكيل صورة بيروت كمدينة استهلاكية غارقة في ملذاتها.

من عادة المدن الحية والعريقة أن تتخذ من المقاهي المتراصفة في شوارعها ملامح لوجودها المتعددة، ورسوما لتاريخها.
ومن عادة المقاهي أن تكون ملاذاً، ليس اَمنا بالضرورة للجميع، أدباء وكتابا ًوصحافيين وثواراً ولصوصاً وحتى رجال أمن وصعاليك.
ومن عادتها أيضاً أن تتقاسم التاريخ في ما بينها، وأن تتبادل الأدوار والأماكن…والأجيال.
بيروت
بيروت كانت تجري على عاداتها "القهوجية"، إذ صح التعبير، إلى أن توقف سيل التبادل الحار، ووقع الجيل الأخير في مرمى الوراثة وسحق بين أنياب الماضي، كحال المنطقة العربية جمعاء، سياسة وأنماط عيش.
ففي عام 1920 أسس توفيق فيصل مطعم"فيصل"في مواجهة المدخل الرئيسي للجامعة الأميركية في بيروت، وعاش ذلك المقهى – المطعم فترة صاخبة وسنوات ساخنة من تاريخ العالم العربي والعالم.
عام 1960 سلم "فيصل" مقاليد المقهى والريادة إلى طفل كان يولد و ينمو في تلك الفترة، هو"الدولتشي فيتا"، الذي حضن مثقفين و حزبيين وسياسيين، تماماً كما فعل "فيصل". وظلّ "الدولتشي" قبلة بيروتية إلى أواخر السبعينيات حين طوته الحرب الأهلية اللبنانية. وعام 1971، كان مقهى جديد يولد ليعيش، يفاعته في ظلّ "الدولتشي" حتى أواخر السبعينات، وشكل"المودكا" "قبلة" فرضت نفسها، وأقام مع "الويمبي" و"الكافية دوباري" مثلثاً ذاع صيته في العالم العربي.
لكن التغيير كان دائماً محل سؤال، وبدأت المحاولات من شارع "بلس" لتنحدر نحو الروشة، ثم تعود نحو الحمرا ملوناً بمقاهيه وأهمها "المودكا".
خيانة
بدأت حركة خيانة متعددة الأوجه لشارع الحمرا في منتصف ونهاية التسعينات حين تحركت دقة الحياة باتجاه الوسط المستحدث الذي لا يحمل ثقافة "المودكا" و"الكافيه دوباري" ولا ثورية "الدولتشي فيتا" ولا صخب وتاريخ "فيصل".
وبدأت الخطط التجارية تسحب الحمرا من ضلوع بيروت لتقيم الوسط مكانه، فهاجر، أو لنقل اختار شبان جيل التسعينات "مونو" "حمراء" لهم. فورث ذلك الشارع الحديث النعمة بحياة الليل، حانات الحمرا التي فقدت ازدحامها وبللها فراغ الضجر. وفقد ذلك الشارع المعتق برائحة البارود و المسلحين، وبعطر مؤامرات المثقفين الطريفة، رائحة المستقبل وعلق بغبار الماضي.
ولم تنفع محاولات "الستاربكس" (المقاطع لأنه أميركي) من هنا والمقهى الأصفر الجديد من هنا لإعادة الحياة إلى زواريب"الحمرا".
لكن الخيانة الحقيقية، كانت تتم في ظلال هذه المقاهي، مع شبان وشابات، معظمهم من اليساريين الجدد، الذين أبوا خيانة الشارع وتاريخه، فوقعوا في أحضان خيانة أنفسهم وجيلهم إذ اشتموا في"المودكا" رائحة الماضي في الأحاديث المتناثرة، وأخذو يغرفون من تجارب أيقوناته وحكاياتهم وثقافاتهم.
معظمهم من الوافدين إلى المعترك السياسي و الثقافي من نصوص ملتحية بصور كاسترو وبرائحة لينين وموت غيفارا وممزقة بكوفيات الوجع اليومي الفلسطيني.
لم تعد هناك من عمليات تسلّم وتسليم. فقد جيل الألفية الثالثة صدى المقاهي وبتنا جيلاً بلا مقهى.
ويوم أقفل "المودكا" في 28 شباط الماضي، نزل عشرات الشباب والشابات إلى ذلك الرصيف العابق بدعسات الخائبين، محاولين منع إقفاله. وشكلوا لجنة كاريكاتورية أسموها "لجنة متابعة إنقاذ المودكا"، لم تتأخر كثيراً في النزول إلى الشارع في 4 تموز الفائت لتقول لأصحاب VEROMODA أنّ اللقاء التالي سيكون عام 2006، عندما تنتهي مدة عقدهم الاستثماري.
ظنّوا أنّ التاريخ يمكن إنقاذه، لم ينتبهوا إلى أنّ عمليات التسلم والتسليم توقفت منذ 32 عاماً وأنّهم جيل بلا مقاه، وأنّهم في العام 2006 سيكونون قد تخطوا عتبة الشباب ودخلوا مرحلة جديدة، سيحتاجون فيها إلى من يدافع عنهم بدلاً من أن يدافعوا هم عن مجد غابر.
دم "المودكا" سال غزيراً على صفحات الجرائد بعد أن ودّعه الشارع الأحمر الذي لفظ اَخر أنفاسه تحت طرقات الاستهلاك. تناثرت دماؤه في الصحف اليومية التي حضنت الكثيرين من كتابها.
سقط "المودكا" من سفح الواقع إلى عرش الذاكرة، فكان سقوطه حنوناً، خفيفاً، متواضعاً وأبياً، لكن أحداً لم يسمع صرخاته وصرخات التاريخ من حوله.
سقوط "المودكا" أعلن سقوط تاريخ من المقاهي. وبروز أجيال بلا مقاه، أجيال تتناثر بين "مونو" و"الداون تاون"راسمة أثراً أكثر تميزاً عن "دقّة" المقهى القديمة، كأنّها تقول أن قبلة الشباب وسهراتهم وعنوان ثقافتهم الجديدة باتت في أحضان الوسط، القلب الجديد لبيروت، حسب ما تقول لافتات الاعمار ومصطلحاته.
البوصلة في اتجاه قلب المدينة الجديد تشير إلى تغير الزمن وتغير عادات من يرسمون عقاربه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق