أساس ميديامقالات

مهمّة نصر الله 2020: إعادة جمهوره إلى "العقل" و"الصواب"

في خطابه ما قبل الأخير، كان الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله شديد الواقعية. للمرّة الأولى بدا حريصاً على مصلحة لبنان، وعلى علاقة الوطن الذي ولد فيه، مع دول أخرى يعتبرها حزبه عدوّة، أبرزها الولايات المتحدة الأميركية. بل وأكثر من ذلك، إعترف بموازين القوى، التي كان يخبر محازبيه أنّها "طابشة" في يده، وأنّه قادر على مقارعة واشنطن وعلى محو إسرائيل وتحرير القدس متى أراد.

لا بل سخر نصر الله من فكرة "تحرير القدس" حين خاطب حلفائه ومحبّيه قائلاً لهم: "يريدون من حزب الله أن يقاتل أميركا ونقاتل إسرائيل وندافع عن لبنان وأن نحرّر القدس وأن نقاتل الجماعات التكفيرية وأن نحارب الفساد وأن نضع قانون الانتخاب الذي يناسبهم وأن نتقاتل مع كل حلفائنا ولا ندع حجراً على حجر في هذا البلد ولا ندع صديقاً مع صديق وحليفاً مع حليف وآخر شيء نكون نحن خرّبنا البلد ودمّرنا البلد لأنه عندنا أصدقاء مقتنعون بهذا".

لم يكن أعتى خصوم نصر الله يتصوّرون أن يأتي يوم ويكون على هذه الدرجة من الاعتراف بموازين القوى، وبتواضع حزبه وتواضع قدراته في لبنان والمنطقة. وربما تكون التطوّرات الأخيرة في سوريا، والضربات التركية التي تلقّاها على حدود إدلب، والضربات الإسرائيلية في أماكن متفر!قة من سوريا، والعقوبات الأميركية القاسية على إيران وعلى أجنحته في لبنان، كلّها دفعته إلى إدراك أنّه في ملاعب الكبار، يروح الصغار "فرق عملة".

هي خطوة أولى على طريق الألف ميل من "التواضع" السياسي، الذي لا يبدأ من لبنان، ولا ينتهي في اليمن والعراق وسوريا وفلسطين وغيرها من الدول العربية.

بدا نصر الله شديد العقلانية، بعيداً عن الشعارات التي لا تسمن من جوع، ولا تحمي من كورونا، ولا تغيّر من الوقائع القاسية في شيء.

بدت هذه الواقعية واضحة، حين ردّ على مطالبات بيئته، في مواقع التواصل الاجتماعي، بحسب قوله، بـ"تنفيذ 7 أيار جديد"، وهذه المرّة "ضدّ القوى الأمنية المولجة بحراسة عامر الفاخوري"، لمنع نقل كبير عملاء إسرائيل من مستشفى بيروتي إلى السفارة الأميركية في لبنان. وسأل جمهوره: "هل هذه مصلحة ‏البلد؟ هذه مصلحة الشعب اللبناني؟ هذه مصلحة الدولة؟ هذه مصلحة ‏المقاومة؟ أنا أترك هذا الموضوع برسم الناس، برسم جمهور المقاومة ‏بالدرجة الأولى".

ناهيك عن أنّ نصر الله وإعلامه وحزبه وخطاباته هي التي صنعت كلّ هذه "الاستقواء الحربي"، وهذه الروح التي تظنّ أنّه لا حدود لقوّة الحزب، ولا حدود لاستعماله هذه القوّى، ولا أحد يمكنه أن يقف بوجه قرار حزب الله في اجتياح منطقة أو ضرب مجموعة بشرية، أو حتّى غزو بلدان مجاورة… ناهيك عن كلّ هذا، يبدو أنّ نصر الله ما عاد أمامه إلا العمل على إعادة بعض "العقل" إلى هذه البيئة، الحربية، المستقوية، التي لا تعير أيّ اعتبار للمؤسسات الرسمية ولا تحترم "هيبة" الأجهزة الأمنية. وبات يتحدّث عن "مصلحة الدولة". تلك التي ما كان يعيرها أيّ اهتمام. وقد أخذ يكتشف أنّها الحضن الحامي له كلّما ضعفت مناعته الإقليمية ولاحقته أدوية التعقيم السياسي الأميركي. وبات يتحدث عن "مصلحة الشعب اللبناني". هذا الشعب الذي لم يكن ينتبه إليه إلا حين يريده أن "يبصم" في ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة".

سيبذل نصر الله مجهوداً كبيراً، لكنّه قادرٌ على إعادة مناصريه إلى جادّة الصواب. فالإفلاس الذي يعاني منه نصر الله، وحزبه، ومرجعيته المالية والأمنية والسياسية في إيران، الإفلاس المالي والسياسي والإفلاس من الحلفاء، وغزو فيروس الكورونا، الذي تعاملت معه إيران باستهزاء، فراح يفتك بأهلها… كلّ هذا جعل من الصعب على نصر الله أن يخرج على جمهوره كالعادة، مهدّداً الخصوم، في الداخل والخارج، ومتوعّداً بالويل والثبور وعظائم الأمور. وفي هذا الوقت تطلب إيران مساعدة صندوق النقد الدولي، للحصول على بعض المليارات من الدولارات. الصندوق الذي "تحكمه" الولايات المتحدة الأميركية، وتتوجّه حكومة حزب الله، التي يرأسها الرئيس حسان دياب في بيروت، نحو مسار مشابه في الآتي من الأيام.

مناصرو نصر الله يريدون منه أن يحارب "أمريكا" كما وعدهم دائماً، لكنّه أجابهم بكثير من الواقعية. يعرف أنّ حكومتي طهران وبيروت تخطبان ودّ هذه "الأمريكا". وهو كان صادقاً إذ ردّ على من دعوه إلى إسقاط الطائرة العسكرية الأميركية التي نقلت الفاخوري من السفارة الأميركية على أطراف بيروت، في منطقة عوكر، إلى خارج لبنان، قائلاً: "ما شاء الله، أنت قم ‏بإسقاطها". هكذا سخر من مجرّد التفكير بإسقاط طائرة أميركية، وأضاف: "هل المطلوب أن نشنّ حرباً كونية من أجله؟". تماماً كما كان منطق سمير جعجع مع أحد الذين سألوه لماذا لا ينزع سلاح حزب الله، في لقائه بإعلاميين في معراب قبل أسابيع، حين قال: "روح إنتَ وقشّطو سلاحو… ونحنا معك". هو منطق "الواقعية" السياسية، ومنطق من يعرف حجم قوّته وحدودها.

لم يكن هذا رأي نصر الله حين شنّ حرب "لو كنتُ أعلم"، في تموز 2006، وكلّف لبنان أثماناً باهظة من أجل أسير لبناني في سجون إسرائيل. لكن اليوم تغيّرت الظروف، وبات "يعلم" أنّه لا يستطيع تحمّل كلفة "حرب كونية" من أجل منع خروج كبير عملاء إسرائيل من لبنان، تحت نظر 100 ألفٍ من مقاتليه، ومئات آلاف الصواريخ، التي وقفت عاجزة تتفرّج على طائرة عسكرية أميركية حطّت في عوكر وحملته وخرجت بسلام آمنة.

للمرّة الأولى بدا نصر الله عقلانياً. العقوبات الأميركية فعلت فعلها بالتأكيد. "الطفر" الإيراني كذلك. الضربات في سوريا، من تركيا ومن إسرائيل ومن جهات كثيرة. الكورونا أيضاً. "التعب" والإنهاك الذي أصاب بنيته . الانفضاض السياسي والإعلامي من حلفاء كانوا أوفياء، قبل أن تشحّ الدولارات، فيتلاشى حبل الودّ ويتراجع منسوب الغرام.

نصر الله 2020 هو غير نصر الله الفائز بانتخابات 2018 وغير نصر الله أيّار 2008 وغير نصر الله تموز 2006.

نصر الله 2020 هو نسخة أكثر عقلانية. "والطائرة الأميركية من عوكر الى قبرص" بداية الطريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق