أساس ميديامقالات

ديانا مقلد وحسن علّيق وعاشوراء: خطآن لا يصنعان صواباً

في البداية، كلّ حزن علنيّ فيه شيءٌ من السياسة. إعلان الحزن، وتعميمه، عمل سياسي في مكان ما، إذا كانت السياسة هي فنّ التحكّم بالحيّز العام والتأثير عليه. فكيف إذا كان الحزن عامّاً في الأساس؟

والحزن هو غضبٌ أيضاً. غضبٌ بلا أفق. غضبٌ مكتومٌ. غضبٌ مظلومٌ. أو غضبٌ فشل في الانفجار، في الخروج، فانفجر داخل الغاضب، ليسيل حزناً، وربما كآبةً. وهذا بالضبط واحد من الطرق المؤدّية إلى المعارضة، وربما إلى الثورة: الغضب، والحزن، ثم تسييل الحزن إلى غضب متجدّد، ولاحقاً إلى حراكٍ واحتجاجٍ وربما إلى عنفٍ وشغب.

الذين خرجوا في 17 تشرين الأوّل على الدولة والنظام كانوا غاضبين، وحزينين أيضاً. رأينا ذلك في عيونهم، وفي كلماتهم، وفي صراخهم وبكائهم. كانت شاشات التلفزيون تنزّ دموعاً، وكنّا نزداد حزناً كلما رأينا ذلك الغضب، والعكس بالعكس.

حين نتحدّث في السياسة، نتحدّث عن العواطف قبل العقل. السياسة عواطف: حزنٌ وفرحٌ، انتصارٌ وهزيمة. لا سياسة خارج العواطف.

السياسة عواطف قبل العقل، ودائماً. يسوق الزعيم المناصرين بالعاطفة. وهناك إجماع على أنّ الحشود تُقاد بالعواطف، بالغرائز الأساسية، ويتراجع العقل كلّما تزايدت أعداد الناس. حتّى الثورات، لا سبيل لعقلنتها، إذا جنحت نحو الغضب والشغب، أو نحو الفرح والرقص، كما تشهد شوارع لبنان منذ عام تقريباً.

والحزن والغضب لعبة لا تنتهي. كلّ الأحزاب تلعب على هذين الشعورين، في قداديس الشهداء ومراسم عزائهم، وإحياء ذكرى الراحلين، قتلاً أو موتاً أو اختفاءً، من الإمام موسى الصدر مروراً بكمال جنبلاط وبشير الجميّل، وصولاً إلى رفيق الحريري. كلّ تذكّر هو تجديد للحزن والغضب. وكلّ السياسة اللبنانية، في هذا المعنى، تمرّ في هذين الشعورين.

لكن لماذا قرّرت الزميلة ديانا مقلّد أنّ "الندبيات المنظمة من قبل الثنائي (الشيعي) إيّاه تبدو اجتراراً رخيصاً ومنعدم الحساسية تجاه ما يحصل في البلد. الحزن المنظّم المفروض والمفتعل يحصل على بعد أمتار من دموع ساخنة طازجة، يحصل على ضفاف جريمة أطبقت على البلد سندفع ثمنها سنوات طوال. تسييس الحزن لم يكن يوماً رخيصاً وقبيحاً قدر ما رأيت اليوم".

لماذا قرّرت الزميلة ديانا أنّ الحزن الطازج أكثر حرارةً من الحزن العتيق؟ بعض الأحزان لا تبرد.

ثم إنّ الحزن على تفجير مرفأ بيروت مسيّس أيضاً. استخدمه الآلاف في الهجوم على بعضهم البعض. كلّ طرف سياسي سيّسه كما يريد. هنا هجوم على أجهزة أمنية، وهناك على نواب، وهنالك على وزراء وموظفين، من الذين "لحّموا" باب العنبر رقم 12، إلى كلّ من عمل يوماً في منصب مسؤول بالمرفأ، وصولاً إلى رئيس الجمهورية.

ولماذا اعتبرت أنّ "تسييس الحزن لم يكن يوماً رخيصاً وقبيحاً قدر ما رأيت اليوم". في هذا إهانة كبيرة لمشاعر عشرات الملايين حول العالم. خصوصاً أنّ الزميلة ديانا تدير موقع "درج" الذي يدافع عن مشاعر المعنّفات والمعنّفين، جسدياً ومعنوياً، من "المختلفين"، مثليين ومتحوّلين. فلماذا الإصرار على "جلد" من يريدون استثمار حزنهم؟ أيضاً في هذا تعدٍّ على الحرية الشخصية لمن يريدون أن يحزنوا، والحزن المسيّس حريّة كذلك. أليس كذلك؟

في الخندق الغميق، حيث ترتفع الرايات العاشورائية، هناك منازل حزينة على الحسين ومتضرّرة من تفجير المرفأ وحزينة عليه. وفي بيئة "عاشوراء" كثيرون قتلوا في التفجير، وعشرات الآلاف تضرّرت مصالحهم ومنازلهم. هذه لا تلغي تلك، وهذا الحزن ليس منافساً للحزن الآخر. في النهاية، لبنان ملتقى الأحزان، ومجمّع لحكايات الحزن والاضطهاد، منذ مئات السنوات.

ربما كانت لاذعة مقاربة الموسيقي زياد سحّاب حين اعتبر أنّ ديانا لو سمعت أصوات تراتيل قداديس الجمعة الحزينة لكانت تحدّثت بشاعرية عن تزامن الحدثين. وبدت ذكية ملاحظته، لكنّ قداديس الجمعة الحزينة لا تحمل وعود السلاح، ولا تشهد تحريضاً على "الآخرين"، لبنانيين وعرباً، ولا تُستخدم لغسل عقول الشباب، لإرسالهم إلى "كلّ أرض" و"حيث يجب أن نكون". وهي ليست قاعدةً لتأسيس جيوش تفتك بالدول العربية من حولنا، كسرطان، وتضع يدها على السياسة في لبنان، كوصيّ، في احتلال سياسي واضح وصريح.

مشكلتنا مع سلوك قيادة حزب الله وليست مع عاشوراء ولا مع بيئة الحزب. مشكلتنا ليست في تسييس الحزن. الإمام الحسين خرج الإمام "لطلب الإصلاح في أمّة جدّي". وهل يوجد أقرب إلى لغة اللبنانيين اليوم، ومطلبهم السياسي، أكثر من "الإصلاح"؟ خرج الحُسين سياسياً، واستشهد تحت عنوان سياسي هو: "هيهات منّا الذلّة". عنوان يكاد اللبنانيون يرفعونه اليوم بوجه الطبقة السياسية. يرفعونه بحزن وغضب، تماماً كما هي سيرة الإمام الشهيد: مزيجٌ من الحزن على قتله، والغضب من قاتليه. أليست هذه هي السياسة؟

مشكلتنا في التوظيف السياسي لهذا الحزن المسيّس. في خلافنا على "الأجندة". لو كانت الأيام غير الأيام، لربما كنّا سنكتب، أنا وديانا وغيرنا، وسنلجأ إلى واحدة من هويّاتنا الكثيرة، نحن الشيعة الخارجين من عباءة "الثنائي"، ولكنّا سنستخدم الرواية الحسينية لطلب "الثورة" على الظالمين من السياسيين. ففي النهاية: الحزن والغضب السياسيان يحرّكان كلّ المعارضين في الكوكب.

ألا يحق لـ"علّوشي" (بحسب توصيف موقع "درج") أن يحزن على الحسين؟ وألا يحقّ لـ"المختلفين" أن يشعروا كما يحبّوا؟ وهل يمكن الدفاع عن حقوق المثليين، ومهاجمة الحقّ بالحزن على الحسين؟ أليس في هذا الكثير من التناقض والظلم، لئلا نقول: الاعتداء.

أما مدير تحرير جريدة "الأخبار" الزميل حسن علّيق فقد اتّهم ديانا بأنّها "لا ترى في الفقراء الآتين للعمل «من خارج المنطقة» – التي يريد السطو عليها ثقافياً، عبر جعل «الانتماء» إليها أحد المكونات اللازمة لهوية الغرباوي – والذين قضوا في تفجير المرفأ، سوى «زائدين» على الموت". ذهب بعيداً في اتهامها. لم تتحدث عن الأرياف ولا عن "المنطقة" ولا عن الفقراء.

دعوا الناس، كلّ الناس، لحزنهم، لا تزاحموهم عليه، يكفيهم ما فيهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق