أساس ميديامقالات

أمين الجميّل: "بيت المستقبل" أو سرايا الماضي؟

الداخل إلى "بيت المستقبل" في بكفيا، لا بدّ أن يشعر بإشكالية الزمن. فهذه السرايا بناها الأمير حيدر اللمعي في العام 1846، قبل 134 عاماً. ثم صارت لاحقاً المركز الصيفي لمتصرّفية جبل لبنان، بعد حرب العام 1860، لتنتقل إلى آل الجميّل، في القرن التالي. وقد جعلها الشيخ أمين الجميّل مركزاً لـ"بيت المستقبل" بعيد إعادة إحيائه في العام 2013، وهو مركز الدراسات والبحوث والتوثيق الذي كان قد أسّسه في العام 1975. هذا "البيت المستقبل"، قبل أن يصير مقرّه في السرايا، تعرّض لنكسات كثيرة.

فقد احتلّت مقرّه في منطقة النقّاش "القوات اللبنانية" في العام 1988، ثم وضع يده عليه العماد ميشال عون في 1989: "وفي تلك الحقبة التي امتدت لسنوات تبدّل استخدام البيت فتحوّل "سرايا المنطقة"، ومن رفع علمه عليه ثبّت أنّه كان حاكماً للمنطقة الشرقية. من "القوات اللبنانية" إلى حكومة العماد ميشال عون العسكرية، فقيادة العماد إميل لحود، فالرئيس الياس الهراوي، فتحوّل من مركز إشعاع فكري وثقافي إلى سجن ومركز تحقيق واحتجاز. يومها "استضاف" الموقوفين من شباب المنطقة ولا سيما موقوفي أحداث 7 آب 2000 حيث أخضعوا للتحقيق والتوقيف وهو اليوم مركز للتصنيع العسكري…" (تحقيق في مجلة "الأمن العام" بقلم الزميل جورج شاهين، عدد آذار 2016).

أما السرايا، حيث استقبلنا الرئيس أمين الجميّل بوجه بشوش، فكانت قد تحوّلت بين 1982 و1986 مقرّاً صيفياً لرئاسة الجمهورية. لأنّها عزيزة على الرئيس الجميّل. وحين قرّر إعادة إطلاق "بيت المستقبل" جعلها مقرّاً له في العام 2013. وها هو اليوم يستقبل زوّاره في تلك السرايا، الغائرة في تاريخ لبنان، منذ الأمراء اللمعيين، إلى المتصرّفية فالحربين العالميتين، وصولاً إلى رئاسته، وليس انتهاءً بـ"بيت المستقبل".

كان اللقاء قبل أسبوع من ذكرى اغتيال النائب والوزير بيار الجميّل، نجله. الصدفة أيضاً لها مذاق التاريخ. فبيار اغتيل في ذكرى تأسيس حزب الكتائب، قبل يوم من استقلال لبنان. ذلك الحزب الذي تأسّس في العام 1936. وفي العام التالي، في ذكرى التأسيس، أصيب بيار الجدّ في رأسه حين كان يقود التظاهرة الأولى ضدّ الفرنسيين في بيروت للمطالبة باستقلال لبنان. بعد 69 عاماً سيستشهد بيار الحفيد في اليوم نفسه، ليدفع ثمن القضية نفسها: استقلال لبنان، لكن هذه المرّة عن الاحتلالين السوري والإيراني، وليس الفرنسي.

الحوار مع الرئيس أمين الجميّل شيّق وطويل. فهو آخر الرؤساء المسيحيين الذين عبّروا عن البيئة المسيحية العميقة والرأي العام المسيحي. بعده جاء الياس الهرواي وإميل لحّود، بتعيين من نظام حافظ الأسد، ثم ميشال سليمان، إثر اجتياح بيروت في 7 أيّار، كتسوية مرحلية، وصولاً إلى ميشال عون، الذي قامت نظرية ترئيسه على فكرة تشبه رئاسة أمين الجميّل: الرئيس القوي الذي يمثّل الأكثرية المسيحية.

ولعلّه القدر، أو منطق التاريخ، أنّ أمين الجميّل، قبل خمس دقائق من خروجه من قصر بعبدا، سلّم القصر والقيادة المسيحية إلى قائد الجيش يومها ميشال عون، ليصير رئيس حكومة عسكرية، وبعدها انتهى به الأمر هارباً إلى السفارة الفرنسية تحت هجوم غارات حافظ الأسد نفسه، الذي عيّن الهراوي ولحّود، إلى أن خرجت قواته مطرودةً من لبنان في نيسان 2005. ثم عاد عون إلى القصر نفسه، الذي أخرجته منه الطائرات السورية، لكن هذه المرّة بالتفاهم مع النظامين السوري والإيراني.

المقارنة بين العهدين، عهد الجميّل وعهد عون، تقول الكثير. صحيح أنّ مرشد حزب الكتائب، بعد اغتيال شقيقه بشير، ورئيس الجمهورية لستة أعوام كانت آخر أعوام الحروب الأهلية الملبننة، صحيحٌ أنّه ورث "الرئاسة عن ظهر الدبابة الإسرائيلية"، وكان عرّاب اتفاق 17 أيّار، وعارض الاتفاق الثلاثي الشهير، وقامت بوجهه وضدّ عهده انتفاضة 6 شباط "المسلمة" غرب بيروت… لكنّه الرئيس الذي زار حافظ الأسد 16 مرّة، والذي كان على تواصل دائم ومستمرّ مع القيادات الفلسطينية التي كان حزبه يقاتلها. فهو من طينة السياسيين الذين لا يقطعون مع خصومهم، ويحاورون الأعداء. مزيج من البراغماتية الذكية، والشجاعة غير المعهودة. فهو كان يزور القيادات الفلسطينية غرب بيروت في عزّ المعارك. وكان عدد من القيادات المسيحية يلومونه على هذا السلوك.

حين يتحدّث الجميّل عن الأسد الأب، يتذكّر كم كان "ذكياً ويحترم مجالسيه".

ذات لقاء، وكان الأسد قد أجّل زيارته إلى الأردن ليشهد توقيع الاتفاق الثلاثي، باعتباره سينهي الحرب وسيضع المسيحيين والمسلمين اللبنانيين في جيبه السوري، قرّر الأسد أن يروي له حكاية لقائه الأخير بأنور السادات، رئيس مصر.

أخبره الأسد أنّ السادات فاتحه بنيّته زيارة إسرائيل بعد استرجاع سيناء، وكيف أنّه حين غادر عائداً إلى القاهرة، عرض عليه رجال مخابراته أنّ "السادات يجب ألا يصل إلى مصر". أي أنّهم اقترحوا اغتياله في الجوّ: "لكنّني منعتهم"، قال الأسد لضيفه اللبناني، الذي كان سيركب الطائرة بعد قليل ليعود إلى لبنان: "بدا صادقاً وعفوياً"، يقول الجميّل ويضحك: "كان يحبّ أن يبعث رئاسل التهديد بهذه الطريقة. وكان يحبّ كثيراً الحديث عن العائلة، وفي الشعر والفلسفة، وكان قارئاً حقيقياً ومثقفاً، وكنّا نتحدث في السياسة قليلاً، وحين ننتهي ننتقل إلى أحاديث الفلسفة والأدب… نادراً ما تجد رئيساً عربياً مثله، يخصّص وقتاً للقراءة".

الغريب أنّ الجميّل يكنّ ودّاً للأسد، وحين سألته عما إذا كان الحديث عن العائلة يصل إلى الحديث عن بشير، المتّهم حافظ الأسد بقتله، فضّل عدم الإجابة المباشرة: "كنا نتحدث عن كل أفراد العائلة".

لنعد إلى المقارنة بين عون والجميّل. رغم أنّ لبنان كان غارقاً في الحروب والويلات، إلا أنّ الجميّل زار الدول العربية الكبرى كلّها. هو الرئيس اللبناني الوحيد الذي زار البيت الأبيض 3 مرات خلال ولايته، ومرّة رابعة بعد خروجه من قصر بعبدا، وقصر الإليزيه 4 مرّات، وزار مصر مرّتين، وليبيا 3 مرات، والعراق والسعودية والكويت… أما اليوم، ورغم أنّ لبنان خرج من الحرب منذ 30 عاماً، ويزعم العهد أنّه "قوي"، فنرى رئيسنا معزولاً ومحاصراً، حتّى إنّه يضطر أحياناً إلى استضافة نواب من كتلته النيابية كي يملأ الفراغ ويبعث خبراً إلى وسائل الإعلان عن "نشاط بعبدا".

لكنّ الجميّل لا يوافق على هذه المقارنة. برأيه أنّ لبنان عانى كثيراً حتّى وصل إلى هذا الدرك. ولا شيء عند الجميّل مفصول عن تاريخ لبنان كلّه. أيّ تحليل يريد صياغته، تراه يبدأ في جذوره قبل 50 و70 و80 عاماً: "منذ العام 1958 لم يعرف لبنان الراحة. من مصر عبد الناصر في الستينات، إلى الفلسطينيين وأبو عمار في السبعينات، إلى السوريين وحافظ الأسد في الثمانينات، والآن الإيرانيون وخامنئي. كلّ هذه الضغوط أوصلتنا إلى هنا وليس أخطاء أفراد أو خيارات شخص محدّد".

لا بدّ من مقارنة هنا. إذ كان يُعاب على بيار الجدّ، نظرية: "قوّة لبنان في ضعفه". وجاء حزب الله ليقول إنّ قوّة لبنان في قوّته. لكن أنظروا اليوم: ها هو لبنان القوي، وها نحن في زمن "قوّة لبنان في قوّته". وبسبب قوّته، لا أحد يستقبل رئيس جمهوريتنا. 4 سنوات لم يستقبل رئيس جمهوريتنا أحدٌ من الرؤساء العرب أو الأجانب، باستثناء الزيارة اليتيمة الأولى للسعودية. وها نحن نغرق في أزمة مالية واقتصادية لا يمكن الخروج منها دون نجدة عربية وغربية تبدو مستحيلة بسبب سلاح حزب الله "القوي".

هدوء أمين الجميّل يبدو غريباً. هذا الرجل سليل العائلة الصدامية، المحاربة، المقاتلة، من بشير إلى بيار، ومنه إلى سامي، ابنه الثائر على كتائبيته في مراهقته، ثم الثائر على "النظام" اللبناني، والمستقيل من مجلس النواب: "هذه خياراته. لا أريد أن أكون مثل "الحماة" التي تنقّر على كلّ شيء. لقد استلم القيادة الحزبية، وهو يقرّر. في المواضيع الاستراتيجية مثل السيادة والاستقلال، نتناقش، أما في قيادة الحزب، فهو يقرّر ويتحمّل مسؤولية قراراته. لو كنت مكانه لاتخذت قرارات مختلفة. لكنّه زمنه. وهو الوحيد المقبول في الشارع وفي الثورة. أنظروا كيف استقبلوه في طرابلس، من دون حراسة ولا تحضير. الناس يثقون به ويعرفونه نظيفاً".

فخور هو بابنه وإن لم ينكر اختلافه معه. الغريب أنّه طوال جلسة من ساعتين يهرب من ذكرى بيار. حتّى سيرة بشير يتجنّبها. كأنّه في حالة إنكار. يداوي الحزن والوجع بالتجاهل. يهرب من نفسه، وليس من السؤال. هو الذي يقول إنّه لم يطلب الرئاسة، بل أتته وباغتته وحمّلته ما لا طاقة له على احتماله. هو أصغر رؤساء الجمهورية في لبنان وأكثرهم ألماً. وهو الذي يوجعه بيار وبشير حتّى نكران غيابهما وذكرهما.

يفقد الرئيس هدوءه حين نسأله عن التيار العوني. يعتبره "حالة مرضية". لا يفهمه، ويغضب من هول محاولة مقارنة باسيل ببشير…

الداخل إلى "بيت المستقبل" سيغرق في الماضي. ماضي الذاكرة اللبنانية منذ 200 عام وحتّى اليوم، ماضي حزب الكتائب، ماضي الاستقلالين وأكلافهما، ماضي الرئيس الجميّل… هي سرايا الماضي، التي تحاول أن تتمسّك بالحاضر أملاً بأن يعبر بها سامي إلى المستقبل. وهذه المرّة ليس من أمراء معيّنين ولا من متصرّفية عثمانية، ولا من رئاسة على دبابة أجنبية، ولا من رئاسة متصالحة مع سوريا والبيت الأبيض والإليزيه، بل من الشارع و"ثورة 17 تشرين" التي يبدو أنّ وجهها الأكبر مسيحيّ النكهة.

هو بيت الماضي والمستقبل، وبينهما، كان لنا جولة في الحاضر من خلال حوار مطوّل مع "الرئيس المقاوم"، كما سمّى نفسه في كتاب مذكّراته: "الرئاسة المقاوِمة".

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق