أساس ميديامقالات

من مهنّد إلى Ethos: تركيا المُتعَبة تكشف لنا عن عوراتها

منذ فورة المسلسلات التركية المدبلجة، قبل عقدين تقريباً، مع شخصية "مهنّد" التي سحرت نساء العرب في مسلسل "العشق الممنوع"، لم يصلنا من الدراما التركية إلا قصص الحبّ والخيانة، في دوائر برجوازية ثرية على ضفاف البوسفور، أو مع بكوات الأرياف الإقطاعية. وبدت تلك المسلسلات، بالعشرات، في مهمة تسويقية لتركيا الحديثة و"صورةً" عن بلاد راح اللبنانيون والعرب يستكشفونها على الشاشة، ويزورونها بمئات الآلاف، سنوياً، منذ ذلك التاريخ.

وعلِق المشاهد العربي في دوامة الحبّ والآلام العاطفية، إلى أن وصلنا مسلسل "وادي الذئاب"، الذي شكّل نقلة في نوعية ما يشاهده العرب عن تركيا. إذ حاول المسلسل ملامسة قضايا سياسية من نواحٍ اجتماعية واقتصادية وتاريخية، لكن بخلطة بوليسية أقرب إلى "الأكشن" منها إلى التاريخ، وبحبكة حيث البطل يخوض في رحلة استخبارية داخل عوالم المافيا.

لكنّ قصص الحبّ والجنس والخيانة ظلّت طاغية، في مسلسلات مثل "عاصي" و"سنوات الضياع" و"نور" و"إيزل" و"ما ذنب فاطمة" وغيرها الكثير. ثم جاءتنا المسلسلات التاريخية التي تحاكي هوس رجب طيب أردوغان بالزعامة الإمبراطورية، لبلاده، ولنفسه أوّلاً وأخيراً، مثل "قيامة أرطغرل" و"عثمان" و"عبد الحميد الثاني" وغيرها.

ظلّت هذه المسلسلات، من "العشق الممنوع" إلى آخر ما وصلنا، تدور في حلقات تخدم "صورة" تركيا التي يريدها النظام، بين بلاد "جميلة" ومناسبة للسفر والنزهة، وبين بلاد "قوية" لها تاريخ عميق الجذور، وأمامها مستقبل للقوّة منظور.

إلى أن جاء مسلسل "Ethos"، بحلقاته الثماني السريعة، على نتفليكس، ومدّته لا تزيد عن ستّ ساعات ونصف الساعة.

جاء هذا المسلسل ليقلب الطاولة على كلّ ما وصلنا من دراما تركية حتّى اليوم. فلا نساء فائقات الجمال، ولا ممثلين شديدي الوسامة، ولا سيارات فارهة، والأحداث لا تدور في قصور خيالية، ولا رجالَ يحملون المسدّسات وتملؤهم العزّة والرغبة بالقتال والقتل والانتقام. لا خيانات عاطفية، ولا قصصَ حبّ بين الرجل الثري والخادمة الفقيرة، أو العكس، ولا مشاهدَ للبوسفور والحمامات الطائرة فوق المراكب الجميلة.

عنوان المسلسل الأصلي بالتركية هو Bir Bakadr، وترجمته "شيء مختلف"، في حين أنّ العنوان بالإنكليزية يذهب أبعد في قراءة المحتوى، لأنّ Ethos تعني، في ترجمة غير حرفية وحرّة، "البوح"، أو ما يريد الكاتب أو الراوي إيصاله عن طريق "الأنا"، إلى القارىء أو المشاهد.

والحقيقة أنّ المسلسل يمكن اختصاره بخليط من ترجمتي العنوانين. فهو بالتأكيد "مختلف" عن الكليشيهات الدرامية التركية التي شغلت العالم منذ عقدين تقريباً، حتّى وصلت مداخيل بيعها إلى إلى دول أخرى، ما يقارب 300 مليون دولار أميركي سنوياً، بحسب تقديرات مواقع متخصّصة.

المسلسل يعرض علينا شخصيات، معظمها من النساء، متعبة، محطّمة، غارقة في ماضيها، موجوعة، يؤلمها الماضي، وتبدو شديدة الهشاشة في الحاضر، ولا أثر لأحلام مستقبلية في أفقها. تريد فقط التخلّص من الجراح، كي تأمن في يومياتها وكي لا "تغيب عن الوعي" كلّما تعبت، كما هو حال البطلة.

كأنّ الوصفَ ينطبق على تركيا نفسها، تلك البلاد التي تنتظر انقضاء 100 عام على هزيمتها، كي تعاود المحاولة الإمبراطورية. فتقول لنا في مسلسلاتها إنّها جميلة وقويّة وقادرة على الريادة، فيما هي تقع أرضاً بين حين وآخر.

في الشكل، يأتينا Ethos عبر نتفلكس، عبر منصّة "المستقبل" في عادات المشاهدة المنزلية، بعيداً عن التلفزيون وشاشته التقليدية، ليرينا تركيا على طبيعتها، لا تركيا "التلفزيون". وتدور أحداثه داخل بيوت، معظمها فقير، وبعضها "متوسّط".

يعرض لنا تركيا التي تشبه أكثر شخصيات روايات أورهان باموق، مما تشبه شخصيات المسلسلات العادية. خصوصاً محاولات زوجة شقيق البطلة للانتحار، بسبب تعرّضها للاغتصاب في طفولتها وعدم قدرتها على النسيان. كما هو حال بطلات رواية باموق، "ثلج". بطلات منتحرات لأسباب غامضة. يعاودنا باموق إذا نظرنا إلى حيرة الشخصيات بين "الشرق والغرب"، كما في روايته "اسطنبول". وهو حال ابنة شيخ المسجد، التي تحبّ الموسيقى الغربية وتستمع إليها في السرّ، وينتهي المسلسل بقرارها أن تخلع الحجاب بعد موت والدتها في صقيع "العودة إلى القرية". مع تلميحات إلى ميول الفتاة المثلية وهي تغادر منزل والدها إلى الجامعة. ونكتشف أنّها ليست ابنته، وأنّه غير قادر على الإنجاب، وبأنّها مُتبنّاة.

حتّى أنّ والدها الشيخ يترك المسجد ويقرّر العيش متجوّلاً في "منزل – عربة". يترك المسجد والنصائح المتشابهة التي يعطيها لمن يسألونه.

أما المرأة المُغتصَبة، فتعود إلى قريتها الريفية في زيارة لتواجه مغتصِبَها الذي قيل لها إنّه مات، لكنّه لا يزال حيّاً، وها هو يطلب منها أن تقتله، بمسدّسه. لكنّها تتركه وتمضي، بعدما استردّت "حقّها" المعنوي، بركوعه أمامها.

هو مشهد شديد التكثيف، يوحي كأنّ الماضي الذي اغتصب الحاضر، لا يغادر. والمرأة تقرّر ألا تقتله، أن تعيش معه، أن تتصالحَ معه.

السياسة حاضرة بقوّة في وصاية شيخ المسجد على عائلة البطلة، في كلّ ما يقومون به. وفي النقاش "الصامت" بين البطلة المحجّبة، وبين طبيبتها النفسية التي تحتقر حجابها وتكرهه، قبل أن تكتشف أن نفورها من الحجاب لا يخلو من "التخلّف" الذي تصف به ذلك الحجاب. والطبيبة النفسية تحتاج هي أيضاً إلى طبيبة نفسية. كذلك المرأة التي حاولت الانتحار. ومثلهنّ زوجها الغاضب من حكاية اغتصابها. كلّها شخصيات معطوبة نفسياً.

طبيبة الطبيبة، يرينا المخرج جسدها عارياً. هو النهد الوحيد الذي أرتنا إيّاه الدراما التركية. كما لو أنّها تكشف لنا عن نهد البلاد في هذا المسلسل. ترينا عوراتها، وأيضاً في الوقت نفسه: جمالها. الجمال بوصفه عورةً، والعكس بالعكس.

هذه الطبيبة تعاشر رجلاً لا يحبّ الكلام. يريد الجنس فقط. يكره والدته المريضة.

هو مسلسل جريء، لا تبدأ جرأته بمناقشة الحجاب والتخلّص منه في الحلقة الأخيرة، ولا تنتهي بمشاهد التقبيل والعري. وبين هذا وذاك، يأخذنا في رحلات صامتة، في عيون الممثلين. وهو تطوير للصمت الذي اشتهرت به المسلسلات التركية التقليدية، لتطويل الحلقات، لكن مع موسيقى مرافقة. أما هنا فلا موسيقى، بل نظرات "محترفة"، من ممثلين شديدي الاحتراف، تكمل الجمل التي قالوها. وهي جمل تكوّن نصّاً عميقاً، حيث المشاهد لا ينتظر تسلسل الأحداث، بل تسلسل الأفكار، وما الذي ستظنّه أو تفكّر به الشخصية، وليس ما الذي ستفعله.

مسلسل Ethos هو نقلة نوعية في الدراما التركية. يصطحبنا في جولة على ما يعتمل داخل تركيا الحاضر، من شخصيات هدّها التعب، مثل البلاد، وتبحث عن خلاصها في مراجعة مستمرّة للماضي والذاكرة – التاريخ، وتطرح أسئلةً بلا أجوبة حول الغد – المستقبل.

هي تركيا، وقد كشفت لنا عن عورتها، وعن آلامها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق