أساس ميديامقالات

يوميّات غادة عون: هيبة القضاء.. بين يدي بركان سعد

هيبة القضاء اليوم في يد رئيس التفتيش القضائي القاضي بركان سعد. هو الذي يستطيع أن يقرّر إنقاذ سمعة العدالة في لبنان، أو أن يرمي بها في أتون التسييس، ليسقط القضاء كما سقطت الطبقة السياسية، ومن قبلها وبعدها المصارف، على طريق السقوط الذي تتّجه إليه المستشفيات والجامعات والمدارس، مروراً بالحكومات وبكلّ مؤسسات السلطة والحكم والمجتمع والاقتصاد والمال.

اليوم بات القضاء كلّه على المحكّ، ليس لأنّ مدّعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون تخالف القوانين و قرارات رؤسائها والقيّمين على عملها فقط، وليس لأنّها قاضية سياسية، تفتح الملفات بحسب التوقيت السياسي للنائب جبران باسيل، وتقفل الملفات بحسب التوقيت السياسي له، كما في قضية تجارة المخدّرات وترويجها التي أطلقت سراح متورّط فيها، فقط لأنّه نجل نائبه في التيار الوطني الحرّ منصور فاضل…

ليس لكلّ هذه الأسباب، ولا لأنّها "مكشوفة" قانونياً بـ28 شكوى ضدّها في التفتيش المركزي، وبـ6 دعاوى جزائية ضدّها، في أرقام قياسية غير مسبوقة بتاريخ لبنان في حقّ قاضٍ…

ليس لكلّ هذه الأسباب، ولا لأنّها تمرّدت على قرار النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، الذي سلّم "الملفات المالية المهمة" للمحامي العام في جبل لبنان القاضي سامر ليشع، فلم يعد من صلاحياتها ملفّ الصيارفة وشركة ميشال مكتّف…

ليس فقط لكلّ هذه الأسباب وغيرها، بل لأنّها تقصّدت أمس أن تهين مجلس القضاء الأعلى، وهو أعلى سلطة قضائية في لبنان، ويرأسه قاضٍ ماروني عُيّن بموافقة رئيس الجمهورية ميشال عون، وهو سهيل عبّود. وهذه الإشارة ضرورية لمن تحاول أن تجعل قضيتها "طائفية" كي تحشد من خلفها طائفة ظنّاً منها أنّها بذلك تستطيع أن تخالف القوانين والمنطق.

فغادة عون، وبعدما استدعاها مجلس القضاء، دخلت أمس صباحاً إلى الاجتماع، وكان ينقّط من لسانها عسل الامتثال وسكّر الوعود، فقدّمت أعذاراً عما بدر منها قائلةً: "أنا ما قصدي أغلط، وأنا حريصة على هيبة القضاء… ربّما تحمّست زيادة عن اللزوم، وذهبتُ بعيداً، لكنّني تحت القانون…".

وقد شرح لها المجلس أنّ قرار توزيع الصلاحيات الذي أصدره القاضي عويدات يحظى بإجماع المجلس، وليس قراراً فردياً صادراً عنه. وأفهمها الرئيس عبّود أنّ هذا الموضوع ليس طائفياً ولا سياسياً، بل يتعلّق بهيبة القضاء وبصورته أمام اللبنانيين وبالثقة العامة به التي تضيّعها عون في أفعالها وسلوكيّاتها منذ وقتٍ طويل.

مجلس القضاء الأعلى طلب من هيئة التفتيش القضائي "إجراء المقتضى"، وطلب من عون "الالتزام بقرار النائب العام لدى محكمة التمييز (غسان عويدات) المعمول به حتّى تاريخه"، وأكّد أنّ "مسار أيّ تحقيق في أيّ ملفّ قضائي، سيُتابع حتّى خواتيمه من قبل القضاء المختصّ، أيّاً يكن القاضي الذي يتابعه، بصرف النظر عن أيّ اعتبارات خارجة عن الإطار القضائي". أي أنّ المجلس أعاد التأكيد على قرار عويدات الذي وزّع أعمال النيابة العامّة في جبل لبنان.

إعلان التمرّد

بدا أنّ عون فهمت الرسالة وأنّها ستمتثل لما طُلِبَ منها بشأن توزيع الملفات في دائرتها. لكنّها بعدما ادّعت الامتثال أمام المجلس، خرجت من الاجتماع وتوجّهت مباشرةً إلى مكاتب شركة مكتّف.

وبعد ساعات أعلنت، في حديث صحافيّ، أنّها خدعت المجلس وأنّها لا تعترف بقرار القاضي عويدات ولا بطلبات مجلس القضاء الأعلى، وصرّحت لموقع "دايلي بيروت"، بلسان "مصادر مطّلعة"، أنّها ترفض قرار القاضي عويدات "لأنّه غير قانوني، إذ لا يجوز له بتاتاً أن يكفّ يدي عن أيّ قضية أتولّاها، فهذا من اختصاص التفتيش القضائي حصراً"، وتابعت: "يحقّ له فقط من موقعه أن يرسل إليّ توجيهات خطّية لا شفهية، وبالتالي بإمكانه أن يطلب منّي، على سبيل المثال، الامتناع عن ملاحقة أحدهم. أمّا إقصائي فهو قرار يتجاوز صلاحياته، وإذا سكتُّ أكون قد كرّست سابقة خطرة من شأنها أن تكبّل القضاة الشجعان وتمنعهم في المستقبل من اتخاذ القرارت الجريئة".

هكذا أعلنت عبر وسيلة إعلامية أنّها تتمرّد على قرار مجلس القضاء وعلى قرار عويدات. وهي بالطبع استندت إلى ما نقلته جريدة "الأخبار" عن رئيس الجمهورية "الذي مدح استقامتها"، وأكّد أنّها في معركتها الأخيرة "لم تخطئ في الجوهر، بل أخطأت في الشكل"، و"توقّع أن تأخذ هيئة التفتيش القضائي، في حال إحالتها عليها، بالأسباب التخفيفية" بحقّ القاضية المتمرّدة، في سابقة خطيرة يوحي فيها رئيس البلاد، المفترض أن يكون مؤتمناً على تطبيق الدستور والقوانين، إلى التفتيش القضائي بقصد التأثير المسبق على قراره، ووضع ضوابط لقراره حمايةً لقاضية العهد.

لكن ماذا حصل داخل الاجتماع؟

مجلس القضاء يتألّف من 10 أعضاء، وقرار إعلان عدم أهليّة عون يلزمه إجماع 8 من أصل 10. هناك قاضٍ طُرِدَ، وقاضٍ أُحيل على التقاعد، فيبقى 8، اثنان منهم محسوبان على التيار الوطني الحرّ، وبالتالي يستحيل استصدار قرار بعزلها بـ6 أصوات.

ويقول من اطّلعوا على محضر الاجتماع لـ"أساس" إنّ عون كانت قد نسّقت مع رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل القاضية هيلاني إسكندر، وهي كاثوليكية عيّنها الوزير السابق سليم جريصاتي، من حصّة "التيار الوطني الحرّ"، ومع القاضية إليان صابر المحسوبة على الحصّة العونية أيضاً في مجلس القضاء.

وتقول المصادر إنّ إليان كان موقفها "أليَن" من موقف إسكندر. إذ لم تدعم عون بشكل واضح. أما اسكندر فقد هدّدت بتقديم استقالتها من المجلس في حال اتّخاذ أيّ إجراء جدّي بحقّ عون. فقال لها القاضي عبود: "تريدين تقديم استقالتك، تستطيعين ذلك. لا مشكلة. في النهاية هناك هيبة القضاء. والموضُوع ليس سياسياً ولا طائفياً. الموضوع هو هيبة مؤسسة قضائية تُهدم على يد القاضية غادة عون وبسبب تصرّفاتها. واليوم نحن مجلس القضاء إن لم نتّخذ موقفاً حفاظاً على كرامة القضاء وهيبة مجلس القضاء، فالأفضل أن نستقيل جميعاً وليس فقط أنتِ". لكن بقيت إسكندر مصرّة على رفض أيّ إجراء جدّي بحقّ عون.

فما هي الخيارات المُتاحة حالياً؟

سبق لوزيرة العدل أن أحالت الخلاف بين عويدات وعون إلى التفتيش القضائي. وبعدما فُتِحَ الموضوع على مصراعيه الآن، وأحالها مجلس القضاء الأعلى اليوم إلى التفتيش القضائي، سنرى كيف سيتعامل مجلس القضاء الأعلى معها، باعتبارها تابعت التمرّد على قراراته وأهانته مجتمعاً. وقد فعل "الماكسيموم" الذي في قدرة صلاحياته أن يفعله. ولهذا لا تحترمه القاضية عون لأنّها تعرف أنّ العضوين المحسوبين على جبران باسيل لن يوافقا على إعلان عدم أهليّتها.

ولهذا باتت الكرة اليوم في ملعب رئيس التفتيش القضائي القاضي بركان سعد، بعدما أحال أيضاً مجلس القضاء الأعلى القاضية عون إليه. فإمّا أن يتّخذ قراراً بإحالتها أمام المجلس التأديبي، وإمّا أن يشارك في دفن هيبة المؤسسة القضائية وسمعتها.

ويقول مصدر قضائي إنّه إذا أحالها إلى المجلس التأديبي، يحقّ له أن يقترح على وزيرة العدل أن توقفها مؤقّتاً عن العمل، إلى حين البتّ بملفّها. ويمكن للوزيرة أن ترفض الاقتراح. لكن للمجلس التأديبي حقّ اتّخاذ قرار بعزلها من السلك القضائي نهائياً.

رهان لبنان واللبنانيين اليوم هو على رئيس التفتيش القضائي. فالقاضيان عبود وعويدات فعلا ما يمكنهما فعله، ونقابتا المحامين اتّخذتا المواقف المطلوبة منهما لدعم القضاء، والباقي على القاضي بُركان سعد: فإمّا أن يتّخذ القرار الشجاع ويحوّلها إلى المجلس التأديبي تمهيداً لعزلها، وإمّا سيُسجّل في تاريخ القضاء أنّ قاضيةً سياسيةً هزمت كلَّ المؤسسات العليا والرقابية في القضاء، وكسرت هيبة القضاء، وكسرت مؤسسةً دستوريةً أساسيةً في لبنان هي الملاذ الأخير للّبنانيين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق